سورة النمل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
النوع الأول ما يتعلق بالسموات:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: الفرق بين أم وأم في {أَمَّا يُشْرِكُونَ} و{أَمَّنْ خَلَقَ} أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل، والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة، وقيل {ذَاتُ} لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال النساء ذهبت والبهجة الحسن، لأن الناظر يبتهج به {أإله مَّعَ الله} أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرئ {أإلهاً مَعَ الله} بمعنى (تدعون أو تشركون).
المسألة الثانية: أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض، وجعل السماء مكاناً للماء، والأرض للنبات، وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة، ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى، لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة، ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} وقد اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل، يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام.
المسألة الثالثة: يقال ما حكمة الالتفات في قوله: {فَأَنبَتْنَا}؟ جوابه: أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً، لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله: {فَأَنبَتْنَا} وقال: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها، فلهذه النكتة حسن الالتفات هاهنا.


{أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
النوع الثاني ما يتعلق بالأرض:
قال صاحب الكشاف {أَمَّن جَعَلَ} وما بعده بدل من {أَمَّنْ خَلَقَ} [النمل: 6] فكان (حكمها) حكمه.
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أموراً أربعة:
المنفعة الأولى: كونها قراراً وذلك لوجوه:
الأول: أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني: أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث: أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع: أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول، ولما حصلت المنافع الخامس: أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة، وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس: أنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح.
المنفعة الثانية الأرض: قوله: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً} فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة: الأول: ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة، ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءاً الثاني: ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث: مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع: مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها.
المنفعة الثالثة للأرض: قوله: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} والمراد منها الجبال، فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها، أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به، فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض، فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء، ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل، ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري، وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة.
وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة: أحدها: أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة.
وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين.
وثالثها: أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر، والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل، فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر.
وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال.
المنفعة الرابعة للأرض: قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط، وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز، وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر، وقال بعض الحكماء في قوله: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] قال عند عدم البغي {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر، فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً؟ قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام، واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار، والأنهار تستمد في الأكثر من العيون، وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل، ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور، وكثيراً ما تقحط السماء فلابد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار، وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب، ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية، ونبه بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر.


{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
النوع الثالث ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه:
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين: أحدهما: قوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} قال صاحب الكشاف: الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها: يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر، واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى، وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة، وقيل المذنب إذا استغفر، فإن قيل قد عم المضطرين بقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وكم من مضطر يدعو فلا يجاب؟ جوابه: قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد العموم وإنما يفيد الماهية فقط، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية، وأيضاً فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فأما قوله تعالى: {وَيَكْشِفُ السوء} فهو كالتفسير للاستجابة، فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما: قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرئ {يَذَّكَّرُونَ} بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلاً، والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9